لم يكن صلى الله عليه وسلم في دعوته الأولى يركز على الفروع ، فلم يكنن ينهى في المعاملات عن الربا ، وقد نزل تحريمه في
السنة العاشرة من حجة الوداع ، ولما كانت آيات الربا في آخر ما نزل من الأحكام ، فإن انضباط المجتمع في أي زمان بأحكام الله تبارك
وتعالى التي تنظم المعاملات ، وابتعاد ذلك المجتمع شيئاً فشيئاً عن الربا يعني بدء نضج ذلك المجتمع .
وحين يصل مجتمع من المجتمعات إلى ملاحظة التدقيق في المعاملات الشرعية ، وحين يبدأ هذا المجتمع بالابتعاد عن النظم في
المعاملة الذي يتمثل في الربا ، فإن ذلك يعني بداية نضج إسلامي في هذا المجتمع .
مما يُجمِل لنا عناوينَ المرحلة المكية التي دعا فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، ذلك الحديثُ الذي يقصُّ
علينا حوارًا بين قيصر الروم وأبي سفيان، يوم أن كان زعيمًا لقريش، وكان في ذلك الحوار اختصارٌ وإجمالٌ لعناوين المرحلة المكية كلها
وعلى لسان أعدائه صلى الله عليه وسلم.
وهذه رواية في صحيح البخاري، حيث أجابه أبو سفيان حين سأله عما يدعو إليه بعناوين ستة:
1. الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده.
2. الدعوة إلى ترك ما كان عليه الآباء.
3. الدعوة إلى الصلاة.
4. الدعوة إلى الصدق.
5. الدعوة إلى العفاف.
6. الدعوة إلى الصلة.
هكذا اختصر أبو سفيان ما سمعه وعرفه في دعوة سيدنا رسول الله التي تزيد على ثلاث عشرة سنة.
1- الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده: كانت تعني تغيير وجهة القلوب، لتتوجه في مقصودها إلى الله تعالى وحده، أي تحديد
المقصود، وتقويم الوجهة.
2- ترك ما كان عليه الآباء: كان يعني ترك اتباع الموروث الباطل، وهو تدريبٌ على ترك الإنسان لاتباع هواه وعاداته، ثم هو بعد ذلك
ينتظر ما يسمعه من الوحي، لينقاد إلى أمر الله تبارك وتعالى الذي ينظم سلوكه... وباختصار: إخراجٌ للإنسان من تقليدٍ أعمى يتبع فيه
العادة والهوى، إلى انضباط وانقياد يستمع فيه لأمر الله تبارك وتعالى الذي خلقه وهو بما خلق أعلم.
3- الدعوة إلى الصلاة: كانت تعني تعليم طريقةٍ للاتصال بالله، فالإنسان بحاجة - وهو المخلوق الضعيف - إلى الاتصال بربه مستمدًّا ومستعينًا.
4- الدعوة إلى الصدق: والصدق حين يُدرَّب عليه الإنسان يدرّب على أن يكون صاحب شخصية سليمة صحيحة لا علّة فيها ولا مرض،
فالكذب والغش والنفاق علامات ضعف في الشخصية الإنسانية.
5- الدعوة إلى العفاف: وهو ارتقاءٌ بالإنسان فوق رتبة البهائم، لأنه يخرجه من فوضوية الغريزة إلى حالة انضباطها وانتظامها.
6- الدعوة إلى الصلة: وهو تأسيسٌ للعلاقات الإنسانية التي بها تتكون الجماعة المتكافلة.
هذه هي العناوين الكبرى التي تؤسَّسُ من خلالها الجماعة:
1- عبادة الله وحده: مقصودٌ واضح، ووجهةٌ على صراط مستقيم.
2- ترك اتباع الموروث الباطل: بناءُ استعدادٍ للانقياد للوحي.
3- الصلاة: اتصالٌ بالله.
4- الصدق: شخصيةٌ إنسانية سليمة.
5- العفاف: ارتقاءٌ إلى رتبة الإنسانية التي تنضبط فيها الغريزة وتنتظم.
6- الصلة: علاقاتٌ إنسانية قوية متكافلة.
هكذا أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعة في مرحلة الدعوة الأولى.
ويُلاحظ أنه لم يكن في دعوته الأولى يركز على الفروع، فلم يكن ينهى عن الخمر، ولما ينزل تحريمه بعد، ولم يكن يأمر المرأة بالحجاب،
ولما ينزل تشريع الحجاب بعد، ولم يكن ينهى في المعاملات عن الربا، الذي هو ظلم في المعاملة...
ففي السنة الثانية من الهجرة - أي بعد المرحلة المكية - فرضت الزكاة وفرض صيام رمضان، وفي السنة الثالثة من الهجرة نزل تحريم
الخمر، وفي السنة الخامسة من الهجرة نزل تشريع الحجاب، وفي السنة السادسة من الهجرة فرض الحج، وفي السنة العاشرة
في حِجة الوداع نزل تحريم الربا...
ووقف صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع - وقد اكتمل بناء المجتمع، ونضجت المعرفة، ووضعت النقاط على الحروف، واستبانت
الأحكام - فقال: (ألاَ إنّ كُلّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ، لَكُمْ رُؤُوسُ أمْوَالِكُمْ، لا تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ).
ونزل قوله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ
اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ،
يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ
اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ، وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 275-281]
وهي آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، وقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت: "يا محمد،
ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة".
وقبل أن أستعرض استعراضًا عاجلاً ما ورد في هذا النص القرآني الذي يعالج فيه حكم الله تبارك وتعالى في الربا، وهو ظلم يرتكبه
الإنسان في المعاملة، أقول:
لما كانت آيات الربا تعتبر في آخر ما نزل من الأحكام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن انضباط المجتمع في أي زمان بأحكام
الله تبارك وتعالى التي تنظم المعاملات، وابتعاد ذلك المجتمع شيئًا فشيئًا عن الربا، يعني بدء نضج ذلك المجتمع.
وحين يصل مجتمع من المجتمعات إلى ملاحظة التدقيق في المعاملات الشرعية، وحين يبدأ هذا المجتمع بالابتعاد عن الظلم في
المعاملة الذي يتمثل في الربا، فإن ذلك يعني بداية نضج إسلاميٍّ في هذا المجتمع، وهذه قضية أحب أن نتنبه إليها كثيرًا.
- {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} أي يأخذونه.
- {لاَ يَقُومُونَ} أي من قبورهم ويبعثون يوم القيامة.
- {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أي يقومون من قبورهم كالمجانين عقوبة لهم من الله تعالى، وتمقيتًا بين أهل المحشر.
- {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي من حيث ما يعود على الإنسان من النفع المالي والمادي الظاهر، وهذا القول يخرج صاحبه
عن الإسلام إن كان مسلمًا لأن الله سبحانه وتعالى بيّن ذلك بقوله: {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
- {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فثمّة خلاف تامٌّ بين المعاملات الشرعية والربا، فالصورة مختلفة والمآل مختلف والحقيقة مختلفة، وهو
في النتيجة يمثل حالة انضباط بأمر الله سبحانه وتعالى.
روى الأئمة - واللفظ للإمام مسلم -عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جَاءَ بِلالٌ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَ بِلالٌ: تَمْرٌ كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٌ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
عِنْدَ ذَلِكَ: أَوهْ، عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ) وهذه رواية الصحيح.
ويأتي آت ويقول: أليست النتيجة واحدة؟
يبيع الصاعين بمقدار من المال ثم يشتري بنفس المقدار من المال صاعَ تمرٍ جيد، ما الفارق؟
إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يجعل منّا أمة مجنَّدَة بأمره.
ما الفارق بين الزنى والنكاح إلا بكلمات؟
لماذا يدرِّبون ذلك الجندي في الجيش ويأمرونه أن يستدير فجأة إلى اليمين، ثم إلى اليسار، ثم إلى الأمام، ثم إلى الخلف، ولا توجد معركة؟ لماذا؟
إنه التدريب على الانضباط.
هل أنت عبدٌ لله أم لا؟
فإذا كنت عبدًا لله تدرك أن الكلمات التي ميزت بين الزنى والنكاح إنما هي إعلان عبدية أمام الله، وهذا الإعلان وهذا الاعتراف بالعبدية
هو الذي حدد انتماءك، وحينما بعت الصاعين بالنقد ثم اشتريت الصاع، أعلنت الانتماء، فهذه شكليةٌ يرضاها الله، بقطع النظر عن كل
الدراسات الاقتصادية التي تحلل هذا الموضوع.
الموضوع في أساسه حالة انضباط بين يدي الله: عبدٌ وربّ، ربٌّ نظّم سلوك العبد وقال له: أريد منك هذا ولا أريد ذاك.
وحين أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم أن يذبح ولده، ذبح ليعلمنا معنى الانضباط، وحين أمر الله بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم قال:
{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] فكان أمرًا للتدريب على الامتثال.
إذًا: قال صلى الله عليه وسلم: هذا عين الربا، بعه واشترِ، فلا تقل: النتيجة واحدة، إنما هي حالة انتماء، وحالة انضباط، وحالة اعتراف
بالعبودية لله سبحانه وتعالى وحده، وترك ما يمليه هواه عليه.
- وهكذا قال سبحانه:{فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ} من جاءه وعظٌ من ربه.
- {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي من أمر الربا قبل دخوله في الإسلام.
- {وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ} في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه، أو أمرُه إلى الله في المستقبل، أي يتولاه الله تعالى فيثبته ببركة هذا الامتثال
على الطاعة.
- {وَمَنْ عَادَ} إلى فعل الربا وتمسَّك به حتى مات وهو على ذلك، أو من عاد فقال: إنما البيع مثل الربا.
- {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يخرجون من النار.
- {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا} أي يذهب بركته في الدنيا وإن كان كثيرًا.
- {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} أي ينميها في الدنيا بالبركة، ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة.
- {وَاللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وانظروا إلى الصفتين: {كَفَّارٍ} وما قال: كافر، وأضاف إليها {أَثِيمٍ} زيادة في المبالغة.
- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} فخصَّ الصلاة والزكاة بالذكر وقد تضمنهما عمل الصالحات، لكنه خصهما
تشريفًا لهما وتنبيهًا على قدرهما، فرأس الأعمال في أعمال البدن الصلاة، ورأس الأعمال في أعمال المال الزكاة.
- {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي لا خوف عليهم من تنكيل الله تعالى بهم في الدنيا، ولا خوف عليهم من إذلالهم في الآخرة.
- {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لأنهم في نضرة ونعيم.
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله تعالى وقاية بترككم ما بقي لكم
من الربا عند من اقترض منكم.
- {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} وهذا وعيد شديد لمن لم يذر الربا.
جاء رجل إلى الإمام مالك فقال: إني رأيت رجلاً سكرانًا يريد أن يأخذ القمر، أي بسبب غلبة الخمرة على عقله يريد أن يتناول القمر
بيده، فقلت (يقول للإمام مالك): امرأته طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرُّ من الخمر، فقال له الإمام: ارجع حتى أنظر في
مسألتك، سأنظر في كتاب الله: هل يوجد فيه ما هو أشرُّ من الخمر؟ فأتاه من غده فقال: امرأتك طالق، إني تصفَّحت كتاب الله
وسنَّة نبيّه، فلم أرَ شيئًا أشرَّ من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب.
- {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} قال العلماء: سبيل التوبة ممن بيده من الأموال الحرام إن كانت من الربا، أن
يردَّها على من أخذها منه، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه.
- {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وهو حكم الله تعالى في القرض الحسن.
أخرج ابن ماجه في سننه، عن أنس بن مالك، والطبراني في الكبير عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُ
لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ؟
قَالَ: لأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لا يَسْتَقْرِضُ إِلا مِنْ حَاجَةٍ).
وفي رواية: (لأن الصدقة تقع في يد الغني والفقير، والقرض لا يقع إلا في يد من يحتاج إليه).
{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} قال ابن عباس وغيره رضي الله عنهما: ذلك في الربا خاصة، أما الديون وسائر المعاملات
فليس فيها نَظِرَة، بل يؤديها إلى أهلها أو يُحبسُ فيه، واحتجّوا بقول الله يبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
[النساء: 58].
- {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فندب الله تعالى بهذا إلى الصدقة على المُعْسِر.
- {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
ولم ينزل بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ من القرآن.
هذا النص القرآني في سورة البقرة، والذي هو في أواخر ما نزل، كان يضع اللمسات الأخيرة على المجتمع.
وحينما نرى اضمحلال الربا شيئًا فشيئًا في بلادنا الإسلامية - وأظن أن أكثركم رأى وفي كل المحافظات - كيف ازدحم الناس على
البنوك الإسلامية، أما البنوك الخاصة الأخرى التي لا تتعامل بالمعاملة الإسلامية، فيجلس فيها الموظفون ولا يوجد مراجِع يُراجعهم،
ويضعون الإعلانات الكثيرة دون جدوى، فما سِرُّ ازدحام الناس على البنوك الإسلامية في كل المحافظات؟
إنه استفتاء يقول: نحن نُحبُّ الإسلام.. نحن نريد أن ندخل إلى ساحة المعاملات الإسلامية.
فالإسلام لم يُقدِّم إلينا مجرد الصلاة، ومجرد تنظيم الأحوال الشخصية في الطلاق والنكاح... لا، لكنه نظَّم المعاملات، والسلوك
الإنساني، وجميع أنواع العلاقات، ولم يترك نوعًا من أنواع العلاقات الإنسانية بين المسلم والمسلم، والمسلم وغير المسلم، والشعب
والحكومة، والحكومة والشعب، والدولة والدولة الأخرى... إلا وجاء بتشريع مُنظِّم عادل، تنتفي معه كل أنواع الظلم، ويحمل الهداية
والعدالة والنور، ويقوم على أساس المساواة الإنسانية، وليس فيه غِش، أو سرقة، أو غشَّاشون، أو لصوص...
إنه تشريعٌ يُقدِّم المساواة، تشريعٌ حاكمُه الأعلى عمر يبكي في يوم خلافته ويقول: (أخاف أن يُحاسبني الله على شاة على شاطئ
الفرات، إن زلَّت قدمها، فيقول لي: لِمَ لم تُعبِّد لها الطريق؟).
(كلكم لآدم وآدم من تراب).
الفرص المتساوية..
الحقوق المتساوية..
العدالة التامة التي لا يجوز لقوي فيها أن يتسلط على ضعيف، وأن يتسلط على فقير..
وقف سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه يومًا من الأيام فقال: "الضعيف فيكم قويٌّ حتى آخذ حقَّه، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه
حق غيره".
هكذا قدَّم الإسلام تشريعًا يخاف اللصوص منه اليوم في العالَم.
لماذا تُحارَب كلُّ تجمعات الإسلام، وتوجَّه إليها السهام، ويُضيّق عليها؟
لأن الإسلام يُقدِّم عدالة، واللصوص يريدون شريعة السرقة والغِش، والمصالح سائدة في العالَم، ويريدون لشريعة الغاب أن تكون سائدة.
أما معاملات الإسلام فإنها مُنضبِطة انضباطًا لا يقبل الاحتمالات.
العقود واضحة في شريعة الله تبارك وتعالى، ولا أريد أن يتحدث الجهلة بالتشكيك في المعاملات الإسلامية مستخدمين جهالتهم
قائلين: ما الفارق، فالنتيجة واحدة حينما نتعامل بالأسلوب الإسلامي وغير الإسلامي؟
نقول: الفارق: إما أن تكون عبدًا لله، إما أن تكون مسلمًا، إما أن تكون صاحب هوية.. أو أن تكون عبدَ نفسك وهواك.
الإسلام ينفي الغرر والجهالة، ويحفظ الحقوق، ويُقدّم معاملة واضحة..
اضطرب سلوكنا بسبب الفوضوية.
واليوم يضمحل الربا، ويُعلن الناس رغبتهم.
قلت: إنه استفتاء عملي على شريعة الإسلام، ولو لم يكن له إحصاء في قيود وأوراق.
هل تعلمون أن الصكوك الإسلامية الأكثر في العالَم الآن، بحسب أحدث الإحصائيات، تُصدّر من عاصمة بريطانيا.
لماذا؟ وهؤلاء هم الذين يدرسون العالم، والذين يفهمون من خلال دراساتهم البعيدة حركة المال وحركة الإنسان؟
بالإحصائيات: العاصمة الأولى التي ارتفع عدد الصكوك الإسلامية المصدَّرة منها هي لندن، لماذا؟
لأن الخبراء قالوا: هذا هو الأجدى والأنفع.
ثبت لديهم بالحساب والتدقيق والرصد والمراقبة، أنه الأجدى والأنفع.
وكيف لا يكون الأجدى والأنفع، والذي وضع نظامَه ربُّ العالمين، الله؟!
كيف لا يكون الأجدى والأنفع من فوضوية الإنسان، وظلم الإنسان، وسرقة الإنسان للإنسان؟!
يومًا بعد يوم يَثْبُت للعالَم أن طريق الله تعالى هو الأنفع وهو الأجدى.
ولابد - كما ثَبَت للعالَم أن المعاملات الاقتصادية الإسلامية هي الأجدى والأنفع - لابد سيتَّضح أن الإسلام هو الأجدى والأنفع على
جميع الأصعدة، وعلى جميع مستويات السلوك، كان ذلك السلوكُ في الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة أو العلاقات الفردية أو
العلاقات الجماعية... سيَثْبت للعالَم ذلك، وسيبحث العالَم عن المعاملات الإسلامية التي قدَّمها وحيُ الله تبارك وتعالى للإنسان،
لأنها الأجدى والأنفع لهذا الإنسان.
رُدَّنا اللهم إلى دينك ردًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله
منقول